|

غربة متجددة

السوريون بين حنين العودة وواقع التحديات


على مدى سنواتٍ طوال، عاش الشعب السوري فصولاً من المعاناة القاسية، تمثلت في دمارٍ واسعٍ طال المدن والقرى، وفقدانٍ مؤلمٍ للأهل والأصدقاء، وتفككٍ عميقٍ للنسيج الاجتماعي الذي كان يوماً ما متيناً. اضطر ملايين السوريين إلى مغادرة وطنهم، متوجهين نحو دول الجوار وأوروبا، بحثاً عن ملاذٍ آمن وحياةٍ كريمة. ورغم عمق هذه المعاناة، استطاع الكثير من اللاجئين أن يبنوا لأنفسهم حياةً جديدة في بلاد المهجر، حيث تشكلت دوائر اجتماعية متنوعة جمعت أشخاصاً من مناطق وطبقات مختلفة، وصاغوا ذكرياتٍ وأواصر جديدة.

لكن اليوم، يواجه هؤلاء تحدي العودة إلى سوريا، وهي عودةٌ تحمل في طياتها مشاعر متناقضة تتراوح بين الفرح بالرجوع إلى الجذور، والحزن على الحياة التي تركوها خلفهم.

لقد شهد السوريون دمار منازلهم ومرافقهم العامة، وأصبح الخروج من المنازل محفوفاً بالمخاطر، مما أدى إلى فقدان الأمان بشكلٍ كامل. فارق الكثيرون أقرباءهم أو تعرضوا لإصابات جسدية ونفسية، الأمر الذي ترك جروحاً عميقة في الذاكرة الجمعية. كانت رحلة النزوح قسرية، حيث حمل اللاجئون ما تيسر لديهم من أمتعة، وانطلقوا في رحلاتٍ محفوفة بالمخاطر إلى دولٍ لا يعرفون عنها شيئاً، تاركين وراءهم كل ما يملكون.

تعددت التجارب الإقليمية، فالتقى سوريون من معظم المحافظات من حلب، دمشق، الحسكة، دير الزور، وإدلب، … في تركيا أو لبنان أو الأردن، و…،اختلاف العادات وفوارق اللهجات لم تمنعهم من التواصل وتبادل الخبرات. أسسوا خلايا دعم للأسر القاطنة في نفس الحي، يلتقون في الجمعيات والمقاهي، وفي العمل، ويتبادلون النصائح حول السكن، ومدارس الأطفال، والإجراءات القانونية. نشأت علاقات وثيقة، بل وحتى زيجات، حيث التقى الشباب والفتيات في هذه الدوائر فكونوا صداقات قوية، وتزوج بعضهم من مناطق مختلفة، فاستعارت المجالس ألواناً جديدة من العادات والتقاليد، وتبادلت الأسر الوصفات والخبرات المتراكمة عبر السنين.

يمثل الأطفال الذين وُلدوا أو نشأوا في بلاد المهجر حالة خاصة، إذ لا يعرف كثير منهم عن سوريا إلا ما سمعوه من أهاليهم أو شاهدوه في صور قديمة. عند العودة، يصطدم هؤلاء الأطفال بعوائق لغوية وثقافية، ويعانون من صعوبة في الاندماج مع أقرانهم داخل البلاد، لاختلاف أساليب التربية والتعليم، وحتى طريقة اللعب والتواصل. يشعر بعضهم بأنهم يغادرون “وطنهم الحقيقي” – أي البلد الذي تربّوا فيه – نحو مكان غريب لا يشبه القصص التي سمعوها.

بين اللاجئين العائدين، تظهر احتكاكات حادة أحياناً بين العادات التي تأقلموا عليها في المهجر، وبين تقاليد الحياة في سوريا. بعض الأزواج، خصوصاً ممن تزوجوا من خلفيات مختلفة، يواجهون تحديات في توافقهم حول تفاصيل الحياة اليومية: من أساليب الضيافة إلى طرق الاحتفال بالأعياد، وحتى في طريقة تربية الأبناء. العادات الجديدة التي اكتسبوها في الغربة تصطدم أحياناً بالتوقعات الاجتماعية داخل المجتمع المحلي.

يبرز انقسام مؤلم بين أفراد الأسرة الواحدة: بعضهم يرى في العودة خلاصًا وحنينًا للذكريات، بينما يتمسك آخرون بالبقاء في بلاد اللجوء، حيث بنوا استقرارًا وظروفًا أفضل. تتولد صراعات بين الإخوة أو الأزواج، ويشعر البعض بأن من يعود يُغامر بمستقبل أبنائه، بينما يرى آخرون أن البقاء في الغربة هو خيانة للانتماء أو تقصير تجاه الوطن. تتعقد هذه الانقسامات مع تباين الفرص المتاحة أمام كل فرد، وتزداد وطأتها حين يشعر العائدون بعدم الحفاوة أو الاتهام من بعض من بقوا في الداخل.

بالنسبة لأولئك الذين وُلدوا وتربّوا في سوريا خلال سنوات الحرب، فإن العودة تعني مغادرة ما يعرفونه كوطن. هذا الجيل، الذي نشأ تحت القصف والحرمان، تعلّق بمكانه رغم صعوبته. ومع اضطرار بعضهم لمغادرة البلاد لاحقًا، يشعرون بأنهم يُجبرون على ترك جذورهم، لتبدأ بالنسبة لهم رحلة اغتراب جديدة في سن متأخرة، حيث عليهم التكيف مع حياة جديدة، ولغة جديدة، وقوانين مختلفة.

هنا تبرز غربةٌ جديدة، غربة الأجيال. فقد كبرت أجيالٌ كاملة في المهجر، لا تعرف من سوريا سوى القصص، بينما عاشت أجيالٌ أخرى في الداخل تحت وطأة القصف والعزلة. هؤلاء ينتمون نظريًا إلى الوطن ذاته، لكن تفصلهم سنوات من الخبرات والمفردات والآمال المختلفة. بل إن هناك تباينات عميقة بين من عاش في مناطق النظام، ومن نشأ في المناطق المحررة، فلكل منهم رؤية متشكلة بظروف قاسية ومتناقضة.

كما يشعر البعض ممن بقوا في سوريا أن من غادر قد تخلى عنهم، ما يجعل العودة محفوفة بالشعور بالذنب والانقسام العاطفي. ويقابل ذلك شعور بالخذلان من العائدين أنفسهم حين لا يجدون بيئة حاضنة أو ترحيباً كافياً، خاصة في ظل تدهور الأوضاع المعيشية.

تشهد بعض المناطق السورية عودة متقطعة لأصحاب العقارات، ما أحدث تغيّراً ديموغرافياً واضحاً. لا تزال نقاط التفتيش والولاءات المتنافسة تعرقل الحياة اليومية، بينما يعيش السكان تحت وطأة غلاء معيشي خانق، وانعدام فرص العمل نتيجة تدهور الاقتصاد والبنية التحتية.

يعاني السوريون في تركيا مثلاً من مشاكل قانونية معقدة (مثل تثبيت النفوس، إذن السفر، تجديد الإقامات، وتصاريح العمل)، إلى جانب مظاهر من التمييز والعنصرية في بعض المناطق، وصعوبة في الحصول على وظائف مستقرة. تقلصت المساعدات الإنسانية، وارتفعت تكاليف السكن والمعيشة، مما يدفع عائلات كثيرة للتفكير في العودة رغم المخاطر، تحت ضغط الحاجة وقلة البدائل.

رحلة السوري بين الوطن والمهجر ثم العودة لا تنتهي بانتهاء الحرب أو بفتح الحدود. إنها مسار طويل من الألم، والتكيف، وإعادة البناء؛ رحلة يتشابك فيها الماضي مع الحاضر، وتتنازع فيها مشاعر الفرح بالعودة إلى الجذور مع الخوف من مستقبل غامض.

اليوم، يواجه العائدون تحدّيًا كبيرًا في إعادة بناء حياتهم في وطن أنهكته الأزمات الأمنية والاقتصادية. ومع ذلك، يعودون وهم يحملون ما اكتسبوه من تجارب في الغربة، ويصطحبون معهم خيوط العلاقات والصداقات التي نسجوها هناك، ليبدأوا فصلًا جديدًا من الحكاية السورية.

إنها غربة لا تُقاس بالمسافات، بل تُقاس بالحنين المتراكم لكل زاوية في شارع مهجور، ولكل لقاء مع صديق، ولكل ذكرى جميلة من زمن مضى. يعيش السوري اليوم دورة متكررة من الألم والتأقلم، يرسم خلالها وطنه بروح مختلفة، ويعيد تعريف معنى “العودة” في كل لحظة يختار فيها البقاء رغم كل الصعاب.

غربة الداخل تبقى شاهدًا على صمود لا ينكسر 💪 وعلى رغبة في الحياة لا تُطفئها الأنقاض 🌱.


شعار إشراق
💚 إشراق للتنمية المجتمعية
نُعلّم، نُمكّن، وندعم بكل إنسانية، من أجل مجتمعات أكثر وعيًا وكرامة.
📘 تعليم وتدريب   |   🧠 دعم نفسي   |   🤝 تمكين اجتماعي   |   📊 أبحاث ومجتمع
🌿 في كل حرف نكتبه، نُشعل شعلةً من إشراق تصنع فرقًا حقيقيًا. # إشراق للتنمية المجتمعية ECD

اكتشاف المزيد من إشراق للتنمية المجتمعية ECD

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

موضوعات ذات صلة

اترك ردك نحن نحب سماع آرائك! شاركنا بتعليقك، فقد يكون رأيك هو الإلهام التالي لهذا النقاش